الجمعة، 29 يوليو 2011

خطوات الى داخل الزنزانة ...قصة القناص المبدع!



خطوات الى داخل الزنزانة
Steps into the cell
_______________
كان أزيز الرصاص قد صمت فجأة في منطقة وادي الحرامية شمال مدينة رام الله، ليرتفع مكانه رجع صدى حشرجات وتوسلات جنود ومستوطنين جرحى عندما ألقى ‘’ثائر’’ نظرة أخيرة لم تخل من عتاب على أشلاء بندقيته العزيزة وهو يستدير بهدوء عائدا إلى منزله في بلدة سلواد المجاورة من دون أن يدرك أن الشظايا وبقية متاع خلفها وراءه ستكون بعد عامين الشاهد الملكي في قضية افترض أن لا شهود عليه فيها.
صباح الاثنين الثالث من مارس/ آذار 2002 استيقظ الشاب ثائر حماد ‘’26 سنة’’ قبل الفجر أو لعله لم ينم ليلته، توضأ وأدى صلاة الفجر وتناول نسخة المصحف التي يحب.. وفي الخارج ارتدى بزة عسكرية لم يسبق وشوهد يرتديها وتمنطق بأمشاط الرصاص وامتشق بندقية الـ ‘’أم ‘’1 أميركية قديمة من زمن الحرب العالمية الثانية وتفقد عتاده المكون من 70 رصاصة خاصة بهذا الطراز القديم من البنادق.
امتطى ثائر مع انبلاج الصبح صهوة جواده وانطلق به مثل فارس جوال من العصور الوسطى يسابق خيوط الشمس إلى جبل الباطن إلى الغرب من بلدة سلواد في مسالك جبلية وعرة بدا انه كما الجواد يحفظها وصل إلى المكان الذي سبق له وعاينه غير مرة فترجل.. وترك للجواد عنانه يمضي حيث أراد، فالفارس قرر الاستشهاد وأطلق جواده.
في الأسفل حيث تخلت سفوح تلال سلواد الوعرة عن انحدارها وبعض خضرة حقولها لتحتضن سواد إسفلت شارع رام الله – نابلس الملتوي مع مسار الوادي ومن موقعه كان بوسع ثائر رؤية المكان بكل تفاصيله.. كانت قطرات الندى لا تزال ترصع الأعشاب والأوراق الغضة في منظر بديع رآه بعينيه نصف المفتوحة على الفوهة المسددة بثبات ومعها رأى الحاجز العسكري بجنوده ومكوناته التي تشوه المكان.
ومن موقع هيأته له يد الطبيعة ركز ثائر البندقية من جذع زيتونة اتخذها ساترا يحميه ويواريه عن الأنظار بعد أن تحسس بندقيته بأصابعه كمن يداعبها وتفقد جاهزيتها لآخر مرة وأطمأن أن المخازن الثلاثة ذات سعة الثمانية رصاصات محشوة بها وتفحص باقي الرصاصات واخذ يراقب ويستعد بانتظار ساعة الصفر التي بدا انه حددها لنفسه. من زنزانته التي انعم عليه فيها القائد الأسير النائب مروان البرغوثي يلقب أمير كتائب شهداء الأقصى يسرد الفتى الجسور اليوم أدق تفاصيل العملية العسكرية التي اعتبرتها إسرائيل أخطر عملية نوعية تنفذها المقاومة أثناء انتفاضة الأقصى والتي لا يزال الشعب الفلسطيني يتغنى بها في كل مناسبة.
كانت الساعة قرابة الرابعة صباحا عندما انطلق ثائر نحو هدفه وكان جنود الحاجز الذي يذيق أبناء المنطقة ألوان الإذلال والقهر وروح خاله الشهيد الذي اغتيل بدم بارد وصرخات الأبرياء تحثه وتدفعه إلى القيام بعمل نوعي يشفي غليله ويلقن العدو درسا. كان يتطلع إلى عملية فدائية أخيرة لأنه توقع ان ينال الشهادة فيها وفق ما أسر به إلى شقيقه في الأسر.
أمضى ثائر نحو ساعتين يراقب ويخطط بعناية طول المسافة التي تبعده عن هدفه بين 120 – 150 مترا هوائيا إلى الشرق منه ومع اشارة عقارب ساعة يده إلى السادسة أطلق رصاصته الأولى. كان ثلاثة جنود يحرسون الحاجز سدد على الأول فاستقرت الرصاصة في جبهته وخرّ مع صدى صوت الرصاصة.. كَبَرتْ يقول ثائر ولاحقت الثاني بفوهة البندقية وعاجلته برصاصة واحدة استقرت في القلب كَبَرتْ وزادت ثقتي بنفسي وفعل بندقيتي وأرديت الثالث برصاصة أخرى.
أعتقد ان ثلاثتهم خروا صرعى وعندما خرج جنديان آخران من الغرفة المجاورة مذعورين يحاولون استطلاع الأمر لم أجد صعوبة في إلحاقهما لمن سبقهم إلى مصرعه ومن داخل الغرفة ذاتها رأيت سادسا كان يصرخ مثل مجنون أصابه مس المفاجأة كان ينادي بالعربية والعبرية ان انصرفوا وهو يدور في الداخل كان سلاحه بيده ولم يطلق في تلك اللحظة الرصاص، لاح لي رأسه من النافذة الصغيرة أطلقت عليه وانقطع الصوت وساد سكون الموت منطقة الحاجز برهة. أعتقد أنني عالجت أمر الوردية بست رصاصات. وفجأة وصلت إلى المكان سيارة مدنية إسرائيلية ترجل منها مستوطنان اثنان صوب الأول سلاحه وقبل ان يتمكن من الضغط على الزناد كان تلقى رصاصة وسقط صاحبه إلى جواره مع ضغط الزناد التالي.
مضت ربما دقيقتان يقدر ثائر قبل ان تصل سيارة جيب عسكرية اعتقد ثائر أنها وصلت بهدف تبديل الوردية وما ان اتضح للضابط ومجموعته الأمر حتى ترجلوا وتفرقوا واخذوا يطلقون الرصاص على غير هدى في كل اتجاه. وتابع ‘’هذا الوضع والفوضى في الأسفل ساعدني في معالجة أمرهم وسقطوا بين صريع وجريح بالتزامن مع وصول سيارة أخرى للمستوطنين وشاحنة عربية أجبر سائقها على الترجل حيث تمكنت من إصابة المستوطنين إلى جانبه من دون ان أمسه هو بأذى.
ويتذكر ثائر الذي يقضي حكما بالسجن 11 مؤبدا كيف وصلت مركبة مدنية إسرائيلية لاحظ ان بداخلها امرأة إسرائيلية مع أطفالها ويقول ‘’كانت في نطاق الهدف.. ولكنني امتنعت عن التصويب باتجاهها بل صرخت فيها بالعربية والعبرية ان انصرفي خذي أطفالك وعودي ويذكر انه لوح لها أيضا بيده طالبا منها الابتعاد.. فانا لست قاتلا’’ يقول من اعتقدته إسرائيل قناصا شيشانيا مخضرما ومحترفا وكل ما أردته ان اجبر هؤلاء القتلة الذين يمعنون في قهر وإذلال العباد على الحواجز ويتلذذون بقتل الأبرياء من دون سبب على دفع فاتورة الحساب.
بالنسبة لثائر الذي سطر ملحمة وادي عيون الحرامية وبات قناصها فان الرياح لم تجر كما تشتهي سفينته ففي تلك اللحظة انفجرت بندقيته العزيزة بين يديه وتناثرت أشلاء في المكان ما اجبره على إنهاء المعركة بطريقة مغايرة لما خطط لها، كان قد أطلق بين 24 و26 رصاصة فقط من عتاده المكون من 70 رصاصة يعتقد أنها جميعا استقرت في أجساد هدفه حيث قتل 11 جنديا ومستوطنا وأصاب تسعة آخرين.
برؤية الواثق وهدوئه اتخذ ثائر قرار الانسحاب صعودا في طريق العودة إلى المنزل كان ذلك نحو الساعة السابعة والنصف صباحاً عندما دلف إلى بيته وأسرع لأخذ حمام ساخن وخلد إلى الفراش فأخذ قسطا من النوم قبل ان يوقظه صوت شقيقه يحثه على الإسراع لتحضير جنازة قريب لهما توفي.
وترافقا في العمل في القيام بواجب العزاء، كل شيء كان طبيعيا ولم يبد على ثائر أية مظاهر غير معروفة عنه حتى عندما بدأت الأنباء عن العملية تتردد في القرية بكل ما رافقها من إشاعات عن ان رجلاً مسناً هو القناص الفذ الذي نفذ العملية التي يؤكد ثائر ان أحدا لم يساعده في تنفيذها أو يعلم بسرها لكن مصادر تشير انه أشرك احد أشقائه الخمسة في سره. كان ثائر على أية حال سعيدا ومرتاحاً على غير العادة في الأيام الأخيرة ربما كان فخورا بأنه فرض سيطرة كاملة على عدو مدجج يثير الرهبة والفزع اينما حل ولكنه امامه كان يطلب السلامة.
ومع اتضاح حجم العملية التي أذهلت قادة وجنرالات جيش الاحتلال فرضت قوات الاحتلال طوقا حول بلدة سلواد ونفذت حملة تمشيط بحثا عن المنفذين المحتملين وأعتقل ثائر وأفرج عنه بعد 3 أيام.. ربما لم يدر في خلد المحققين ان هذا الفتى ابن الثانية والعشرين هو المنفذ الذي رسمت له مخابرات الاحتلال صورة بأنه رجل كبير في السن عززه وجود لفافات من التبغ ‘’العربي’’ الذي يدخنه كبار السن عادة بعد إعداده بأيديهم. إضافة إلى دقة القنص ببندقية قديمة التي عززت الاعتقاد بأن المنفذ قناص محترف ربما تدرب في ساحات قتال سابقة لدرجة اعتقد انه قناص قادم من الشيشان.. كان الإفراج عنه عزز في نفس ثائر الثقة بأنه في مأمن وأخذ يردد في كل مجلس يرتاده حكاية القناص العجوز الذي كان يقول انه ربما انتقل إلى جوار ربه ولن يقع في يد الاحتلال. فيما كان في قرارة نفسه يطرب لسماع هتافات المتظاهرين في عموم فلسطين تشيد بالقناص وأفعاله وهم يرددون بالعامية ‘’ودينا واحد قناص على عيون الحرامية، وسطحهم بالرصاص والبارودة امريكية’’.
مضى نحو 30 شهرا على العملية عندما تسلمت عائلة ثائر أمرا من المخابرات يطالب ثائر بمراجعتها ولكنه لم يراجع كان ذلك قبل أسبوع من مداهمة منزله واعتقاله فجر يوم 2/10/2004 يومها بدا واثقا من نفسه وطمأن والدته والعائلة بأنه سيخرج بعد أيام قليلة لأنه لم يفعل شيئا يوجب اعتقاله ولا شيء ضده.
لم يطل المقام عندما نشرت صحف عبرية صبيحة 6/10/2004 نبأ إلقاء القبض على قناص وادي عيون الحرامية وانه ثائر حماد وفي اليوم ذاته تم إحضار ثائر إلى الموقع لإعادة تمثيل العملية. الخبر واعتراف ثائر كان بمثابة الصدمة للاحتلال الذي استبعد وشكك في الاعتراف قبل ان يتأكد من بصمة وجدها على سكين فواكه وبقايا البندقية كان تركها ثائر في موقع العملية وعلى العائلة التي كانت في حالة من الذهول بين التصديق والتكذيب.
على رغم كون العملية نوعية وهزت صورة جيش الاحتلال وأصابت مهنيته في مقتل اخضع ثائر لتحقيق قصير لم يزد عن 50 ساعة وذكر لأشقائه انه لم يتعرض خلالها إلى تعذيب جسدي أو نفسي يذكر بل ان جنودا وضباطا ادوا له تحية عسكرية متى دخلوا عليه تقديرا لمهنيته. ترافق اعتقال ثائر اعتقال ثلاثة من أشقائه هم نضال وأكرم وعبد القادر الذي اعتقل قبله بعشرة أيام فيما ترافق اعتقال الآخرين مع الكشف عن العملية.
في سلواد وقع الخبر مثل صاعقة على العائلة أصيبت الأم والجدة بجلطات وابلغت العائلة بنية سلطات الاحتلال هدم المنزل وطلبت اخلاءه فيما أصر والد ثائر على البقاء فيه نحو 7 أشهر في محاولة يائسة لإنقاذه من دون أثاث في حالة ترقب وقلق اتت على اعصابهما.
في منتصف شهر رمضان من عام 2004 فوجئت الأم المفجوعة بغياب أولادها بثائر يدلف إلى الداخل يرافقه عدد كبير من الجنود كانت الساعة تشير إلى ما بعد انتصاف الليل عندما تقدم ضابط من الوالدة بنت الـ 55 واخذوا يستجوبها وهو يقول أنت أنجبت عساكر مثل ثائر الذي قتل 13 إسرائيليا، استطاعت الوالدة ان تميز وجه ثائر المقيد بالسلاسل واستطاعت الوالدة ان تضمه إلى صدرها وهي تجهش بالبكاء فيما كان هو يهدئ من روعها بقوله أنت أم أبطال لا تجزعي فلسطين غاليةياأمي وتستحق أكثر بكثير مما قمنا به، كان ثائر قد احتال على المحققين بصورة ذكية ليعيدوه إلى بيته بذريعة انه يريد إرشادهم إلى أسلحة لكنه في الواقع كان يريد رؤية وجه والدته فهو توقع انه ربما لن يكون بمقدوره رؤيتها مرة أخرى.
ومن المنزل اعيد ثائر إلى سجن عسقلان وبعد يومين فوجئ بدخول شقيقه عبد القادر ولم تمض ساعات حتى انضم إليهما الشقيق الثالث أكرم وكانت وجوه الاشقاء قد تغيرت لدرجة لم يعرف احدهم الآخر للوهلة الأولى بسبب الاعتقال والتعذيب ولكنها لحظات لن تنسى.
قال أكرم عنها وتابع: خطوت إلى داخل الزنزانة وانا أتفرس الوجوه كان قد مضى شهران على اعتقالي ولم أتعرف على أخي في تلك اللحظة كان ذقنه طويلا وكذلك شعره كما الأخ الثاني بل تعرفا هما علي وأسرعا نحوي بايد مفتوحة كانت لحظة تاريخية جميلة بحق. ولم يطل بنا المقام في الزنزانة معا بسبب التنقلات.
وفي كل مرة كنا نستقبل مجددا بكل حفاوة واحترام وكان الأسرى فرحين بوجود ثائر بينهم، بعد أسبوع من اللقاء أخرجنا من الزنازين إلى السجن المركزي وفيه مكثنا ثلاثتنا معا لمدة شهرين في الغرفة ذاتها وقص خلالها ثائر تفاصيل حكايته الطويلة وبعد شهرين نقل إلى سجن ‘’ايشل’’ المركزي ووضع في قسم العزل رقم 4 وفيه التقى القائد مروان البرغوثي ومكث معه في الزنزانة فترة طويلة انعم عليه البرغوثي خلالها بلقب أمير كتائب شهداء الأقصى. ومنه بدأت رحلة ثائر مع المحكمة التي اجريت له في محكمة عوفر العسكرية جنوب غرب رام الله، والتي عقدت للنظر في القضية ولائحة الاتهام ضده أكثر من 30 جلسة انتهت بالحكم عليه بالسجن المؤبد 11 مرة، كان ثائر في المحكمة فخورا ويتمتع بمعنويات عالية وهو يسمع الحكم خصوصاً وهو يرى آثار العار الذي ألحقه بقادة وجيش الاحتلال. فيما كانت المستوطنة التي رفض إطلاق النار عليها يوم العملية تتظاهر مع آخرين لأجله في الخارج.
كان ثائر في قاعة المحكمة سعيدا برؤية وجه والدته وزادت سعادته واعتزازه وهو يرى الوالدة تحتضن لائحة الاتهام التي قدمها لها المحامي جميل الخطيب للتو وتقبلها وعينها الأخرى تراقب فلذة الكبد يجري سحبه مقيدا من دون ان تتمكن من توديعه قبل ان يزج به في سجن ‘’اوهلي كيدار’’ في بئر السبع حيث يحتجز إلى الآن.

ويتابع أكرم ‘’بات أخي يعرف بين الأصحاب انه بارع في القنص لدرجة انه درب عددا منهم على هذه المهارة كانوا يفعلون ذلك خلسة ولكن ذلك ربما هو من فتح العيون مجددا عليه وربطه بالعملية ويؤكد انه لم يسبق ان علم بهذه القصة سوى في الزنزانة التي جمعتهما’’.
ويرفض أكرم وهو يروي تفاصيل القصة الربط بين اعتقال شقيقه عبد القادر 22 عاما والحكم عليه بالسجن 11 عاما واعتقال ثائر مشيرا انه اعتقل على خلفية عمليات إطلاق نار باتجاه جنود الاحتلال ومستوطنيه على الشارع الالتفافي حيث اشتهر بلقب صقر الالتفافي.
أما أكرم نفسه فقد اعتقل وحكم عليه بالسجن 14 شهرا بتهمة الانتماء إلى تنظيم سياسي إلى جانب حكم مع وقف التنفيذ بالسجن 5 سنوات. فيما حكم على الأخ الأكبر نضال بالسجن 10 شهور بسبب حيازة بندقية صيد .

تحية لك يا ثائر تحية خاصة مني

ليست هناك تعليقات: